هل يشكل التقسيم مخرجاً من دائرة القتل التي لا تعرف نهاية لها في سوريا اليوم؟
أليست سوريا المقسمة على سلام خير من سوريا الموحدة على حرب؟
ألا يمكن أن يشكل تقسيم سوريا اليوم سبيلاً إلى وحدتها غداً على أسس أفضل وأمتن؟
أليست سوريا اليوم مقسّمة في الواقع؟
غالباً ما تطرح هذه الأسئلة في النقاشات الخاصة، وقليلاً ما تطرح في النقاش العام جراء العبء النفسي الذي يشكله طرح هذه المسألة. التقسيم يحمل بعداً طائفياً في سوريا لا يقبل كثيرون الخوض العام فيه على اعتباره محرقة معنوية للأشخاص. والتقسيم يحمل أيضاً بعداً "استعمارياً" له في الوجدان العربي ما له من رفض. الاستعمار هو من يقسّم، والاستعمار هو من قسّم الموحد، وهو من يعمل على تقسيم المقسّم. الكلام عن التقسيم يلامس عصباً مكشوفاً عند السوريين والعرب عموماً، هو عصب الشعور بأنهم مجرد مادة لفعل الغير "الاستعمار"، وهؤلاء الغير يتخذون شكل دول وهيئات كبرى ومنظمات سرية ..الخ، ويأتونك بألف لبوس ولبوس، وهؤلاء الغير يستخدمون قوتهم ومكرهم للكيد للأمة، أكانت أمة إسلامية أو أمة عربية، ويتربصون بها شراً.
ومع ذلك فإن الجحيم السوري بدأ يذيب الكثير من القناعات القارة (الثوابت) في الوعي العام السوري ويعيد طرح الأسئلة الأولية مثل: ما هي قيمة أي إنجاز سياسي أكان تحريراً أو وحدة أو غيرهما ما لم ينعكس مزيداً من الحرية والكرامة والاعتبار السياسي والاقتصادي للإنسان؟ ولماذا يقف شعب ما ضد الاستعمار إن لم يكن لأن الاستعمار يعني نهب الثروات وإذلال المستعمَرين، أي يعني الإفقار الاقتصادي والسياسي؟ وبماذا يمكن تفريق الاستعمار عن السلطات "الوطنية" المستبدة التي تمارس النهب والإذلال بمستوى لا يقل عما يمارسه الاستعمار؟
أمام بطش السلطة "الوطنية" السورية الذي فاق كل التوقعات بات الوعي السوري العام يدرك أن كل إنجاز سياسي يكتسب قيمته من انعكاسه على مستوى حياة الناس الاقتصادية والسياسية، ولا يوجد إنجاز سياسي يمتلك قيمة بذاته مستقلاً عن هذه العلاقة.
اليوم نضبت طاقة الحلم بالوحدة العربية التي طالما استثمرتها أحزاب وسلطات لكي تعزز مواقعها على حساب هذا الحلم نفسه. الإنسان العربي أعياه هذا التلازم بين الحديث الفائض عن الوحدة العربية وبين الإمعان الواقعي في سلبه حقوقه وإعلاء مصالح السلطات المستبدة فوق مصالح الشعوب والأوطان والأمة. منذ حوالي ثلاث سنوات ونصف (تموز 2011) انفصل جنوب السودان عن شماله وأعلن دولة مستقلة، دون أن يترك هذا الانفصال أثراً يذكر في الشارع العربي. وقد سبق أن طالب اليمنيون الجنوبيون بالانفصال عن الشمال بعد الوحدة لأن الوحدة حملت معها سيطرة شمالية شبيهة بسيطرة الإقليم الجنوبي، قبل أكثر من خمسة عقود في الجمهورية العربية المتحدة التي لم يزد عمرها أيضاً عن 3 سنوات ونصف (22 شباط/فبراير 1958-28 أيلول/سبتمبر 1961) رغم سحر الزعيم جمال عبد الناصر. ومن ناحية أخرى جاءت إزالة جزء من الحدود بين العراق وسوريا على يد "داعش" دون أن تترك ارتياحاً "قومياً" لدى العرب أو شعوراً بالإنجاز لدى المسلمين. كلا الانقسام والتوحيد لم يعد لهما فاعلية شعورية طالما أنهما مستقلان عن إعلاء حقوق الفرد وكرامته وحريته.
أنتج الصراع السوري الراهن ظاهرتان متباينتان، الأولى هي زيادة الانفصال الطائفي ذهنياً، أي تبلور الطوائف في الذهن العام ككيانات لها حدود تمايز سياسية، والثانية هي اختلاط طائفي واقعي في المناطق التي يسيطر عليها النظام ولاسيما في منطقة الساحل. على أن التفاصل الطائفي الذهني وجد تعبيره الواقعي في المناطق "المحررة" الواقعة تحت سيطرة القوى التي تواجه قوات النظام.
ولكن لا بد من القول هنا أنه لا ينبغي البناء على هذه الظاهرة الأخيرة، لأن تصفية الوجود "الأقلوي والعلوي بوجه خاص" من مناطق سيطرة الإسلاميين لا يعكس، برأينا، موقفاً شعبياً، ما يعني أن الهزيمة العسكرية للقوى المسيطرة في هذه المناطق ستجر معها هزيمة لفكرة التصفية والنبذ الطائفي الممارسة ثمة.
بناء على هذا الواقع، يبدو أن فكرة الانقسام السوري الممكنة هي التقسيم وفق خطوط انقسام طائفية بينت المجريات السورية أنها تتوافق مع خطوط انقسام سياسية، ومع خطوط انقسام النفوذ الإقليمي أيضاً. أي إن هناك توافقاً ثلاثي البعد، وإن تكن صورته عامة وغير قطعية، بين الطائفي (شيعي/علوي مقابل سني) والسياسي (مع النظام السوري مقابل ضد النظام السوري) والإقليمي (إيران مقابل تركيا/الخليج).
مع ذلك فإن التداخل الديموغرافي لا يسهل مثل هذا التقسيم، لذلك من المرجح أن يتم تقسيم طائفي للسلطة دون تقسيم جغرافي. صحيح أنه لم يكن التقسيم الطائفي للسلطة بعيداً عن ممارسة النظام السوري منذ عقود، لكنه كان تقسيماً شكلياً، فقد كان مركز القرار محدداً ومحسوماً. ما نعنيه هنا أن يتم دسترة مثل هذا التقسيم على الطريقة اللبنانية والعراقية. وهذا يستدعي وجود هيئات سياسية طائفية يتم العمل اليوم على تشكيلها وقد يكون هذا هو السر الكامن وراء المؤتمرات الطائفية التي ترعاها اليوم دول أوروبية.
وفي كل حال، إذا عجز السوريون عن إعلاء الرابط الوطني واستسلموا لحلول تقسيميه كهذه (وهذا ما يبدو للأسف) فإن ذلك سيكون نوعاً من التلغيم الدائم للمستقبل.